باكستان في مواجهة صداع البشتون


 بقلم: د. عبدالله المدني*

علاوة على مشاكلها الخارجية المزمنة مع جارتيها الهندية والأفغانية، تواجه باكستان العديد من المشاكل الداخلية على الأصعدة السياسية والاقتصادية والإجتماعية والأمنية، ما يحول دون تمتعها بالإستقرار المطلوب لخوض معركة جادة للبناء والتنمية والنهوض. وفي السنوات الأخيرة، ولاسيما منذ العام 2018 برزت على السطح مشكلة "البشتون" المطالبين بالعدالة والمساواة والمعاملة الانسانية.

والمعروف أن البشتون مجموعة عرقية، لها تقاليدها وأعرافها وثقافتها الخاصة، وتقيم بصورة أساسية في المنطقة الواقعة بين سلسلة جبال هندوكوش في شمال شرق أفغانستان والقسم الشمالي لنهر إندوس في باكستان. وهم لئن شكلوا على الدوام أكبر مجموعة عرقية من سكان أفغانستان، فإن الكثيرين منهم انتقلوا في الفترة ما بين القرنين 13 و16 من أفغانستان إلى ما يعرف اليوم بباكستان، مشكلين ثاني أكبر مجموعة عرقية في الأخيرة من بعد العرقية البنجابية بعدد يصل إلى 25 مليون نسمة (حسب الموسوعة البريطانية). والمعروف أيضا أن هؤلاء حلموا في الماضي بتأسيس دولة خاصة بهم تحت إسم "بشتونستان" تضم مجموعاتهم الموزعة بين باكستان وأفغانستان، وتمتد ما بين شمال تركستان وشمال شرق كشمير وشرق البنجاب وجنوب بلوشستان وغرب إيران، لكن الحلم كان أكبر من أن يتحقق وسط تعقيدات التاريخ والجغرافيا في جنوب آسيا فمات تدريجيا.

والجدير بالذكر أن العمليات العسكرية المضادة للجيش الباكستاني من قبل المتشددين في سوات ووزيرستان والمناطق القبلية البشتونية الأخرى أدت إلى تشريد الملايين من البشتون وخسارة الآلاف من الأرواح وتدمير البنية التحتية المتواضعة أصلا، الأمر الذي ساهم في شعور البشتون بالغربة والمظلومية وانعدام الثقة في المؤسسة العسكرية والحكومة الفيدرالية، وهو ما ساهم في ظهور "حركة تحفظ بشتون" (PTM) بقيادة الناشط الحقوقي "منظور أحمد باشتين" منذ عام 2018، ولاسيما بعد أن قتلت الشرطة في كراتشي الشاب البشتوني "نقيب الله مسعود"، ولم تستجب لمطالب بفتح تحقيق رسمي في مقتله. وقتها تحولت الحركة من تنظيم اجتماعي يقوده ثمانية طلاب ويدعو إلى محاسبة قتلة الشاب القتيل إلى تنظيم سياسي يطالب بانصاف عموم البشتون.

وتتخذ الحركة اليوم من منطقة حزام البشتون في وزيرستان وما حولها شمال غرب باكستان مقرا لأنشطتها وسعيها السلمي في سبيل المطالبة بالإنصاف والعدالة والأمان والحياة الكريمة ومنع ما تصفه بـ "الإضطهاد والاعتقال خارج نطاق القانون واللامبالاة بإزالة الألغام ومخلفات الحرب من المناطق البشتونية". وهي تعتبر نفسها ناطقة باسم كافة البشتون الذين تحولت أراضيهم إلى منطقة قتال منذ زمن الحرب الباردة بين السوفييت والأمريكان ثم زمن الصراع بين الغرب والجماعات الإسلامية، وبالتالي تلقي باللائمة على حركة طالبان الأفغانية والجيش الباكستاني معا في تدمير المناطق البشتونية في باكستان، مطالبة بالتعويض عما لحق بهم.

وفي الآونة الأخيرة اتخذت أنشطة الحركة زخما جديدا بتسييرها مسيرات احتجاج جماهيرية من معقلها نحو مدن باكستان الرئيسية مثل كراتشي واسلام آباد ولاهور، وإقامة تجمعات شعبية على شكل برلمان قبلي مفتوح (جيرغا) أمام مؤسسات الدولة الرئيسية، وهو ما سلط الأضواء أكثر على مطالبها، على الرغم من التعتيم الاعلامي الرسمي الذي ردت عليه الحركة باللجوء إلى وسائل الإعلام الحديثة والمنصات الألكترونية.

ويرى مراقبو الشأن الباكستاني أن تجاهل الحكومة الفيدرالية في إسلام آباد لهذه الحركة الناشئة ومطالبها سيشكل خطأ فادحا قد يؤدي إلى دفع البشتون نحو بدائل أكثر راديكالية أونحو تبني توجهات انفصالية مكلفة. وبعبارة آخرى يرى هؤلاء أنه من الأفضل للدولة الباكستانية ومؤسستها الأمنية والعسكرية أن تتفاوض مع الحركة وتلبي كل أو بعض مطالبها، وتستخدمها كأداة حاسمة في مكافحة التطرف والإرهاب من أجل بناء الثقة وتعزيز الوحدة الوطنية والإستقرار على المدى الطويل، خصوصا وأن حركة PTM تنتهج نهجا سلميا وتنبذ العنف. أما اسكات الحركة والتضييق عليها واتهامها بتلقي الدعم من كابول وغير ذلك من الاتهامات فسوف يؤكد مزاعمها بوجود تمييز وتهميش رسمي ضد العرقية البشتونية من جهة، ويخلق من جهة فراغا قد تملأه عناصر متطرفة، بحسب هؤلاء المراقبين.

ويمكن القول أن زعيم الحركة "منظور باشتين"، الذي تحول اليوم إلى صوت للملايين من البتشون وأصبحت قبعته البشتونية التقليدية المعروفة باسم "مازاري" رمزا للتحدي، منفتح على الحوار وليس لديه نوازع انتقامية شخصية ضد السلطات التي سبق لها أن اعتقلته عام 2020 بتهمة التحريض ضد الدولة وسجنت العديد من زملائه الشباب قبل ذلك، وبالتالي يمكن التفاهم معه على جملة من الخطوات الهادفة لنزع فتيل التوتر والعنف في المناطق البشتونية وبناء الثقة والاستجابة لمطالب من يمثلهم في إطار القانون والدستور، ولاسيما لجهة تحسين ظروف معيشة عشرات الآلاف من البشتون الذين فقدوا منازلهم وأراضيهم ومصادر رزقهم وباتوا يعيشون في مخيمات كئيبة وأحوال مزرية بسبب عمليات الجيش السابقة في حزام البشتون، ضد معاقل الإرهابيين والمتشددين. 



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: سبتمبر 2023م


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق