خلفيات ما جرى في كوريا الجنوبية

 


 

بقلم: د. عبدالله المدني*

في ساعة متأخرة من ليلة الثلاثاء الثالث من ديسمبر الجاري، فاجأ الرئيس الكوري الجنوبي "يون سوك يول" العالم عبر خطاب متلفز بفرض الأحكام العرفية في كافة أنحاء البلاد، وتعطيل الدستور، وحظر التجمعات، ونشر قوات الجيش والأمن. هذا القرار المفاجيء، حبس أنفاس العالم، بل أرعبه من احتمال وجود صلة للقرار بهجوم وشيك من كوريا الشمالية المسلحة بأسنان نووية وباليستية، وبالتالي غرق الشرق الأقصى في وحول مشابهة لوحول الشرق الأوسط ووحول روسيا وأوكرانيا، خصوصا وأن الرئيس برر قراره بالقول بأنه "من أجل حماية كوريا الجنوبية الليبرالية من التهديدات التي تمثّلها القوات الشيوعية، والقضاء على العناصر المناهضة للدولة".

توالت الأحداث سريعا بعد ذلك وسط مخاوف من سقوط هذه الدولة الصناعية المزدهرة في براثن الفوضى والاقتتال الداخلي التي قد تستغلها بيونغيانغ للقيام بغزو مسلح. حيث نزل آلاف المواطنين إلى الشوارع للتنديد بقرار رئيسهم، على الرغم من تأخر الوقت وبرودة الطقس، وبقوا في الشوارع إلى ساعات فجر اليوم التالي مرددين شعارات تدعو إلى عزل الرئيس، فيما كان الأكبر سنا منهم يستعيد وقائع سابقة ممائلة خضعت فيها بلادهم للأحكام العرفية زمن الزعيمين الديكتاتوريين "تشون دو هوان" و"روه تاي وو" في الثمانينيات والتسعينيات، والذي شهد قتل المئات واعتقال الآلاف وحظر الأنشطة السياسية وإغلاق الجامعات، والامعان في الفساد واختلاس المال العام.

وبينما كان الجيش الكوري الجنوبي ينفذ أوامر قائده الأعلى بفرض الأحكام العرفية، نجح عدد من النواب (190 من أصل 300 نائب) في تجاوز الإجراءات المشددة المحيطة بمنى البرلمان، والوصول إلى داخله لعقد جلسة طارئة انتهت بالتصويت على قرار يطالب رئيس البلاد بوقف فرض الأحكام العرفية فورا.

لمعرفة أسباب ماحدث، لا بد من العودة إلى الوراء إلى مارس 2022 وهو التاريخ الذي جرت فيه انتخابات رئاسية لاختيار خليفة للرئيس المنتهية ولايته آنذاك "مون جاي إن"، حيث فاز يون كمرشح لحزب "سلطة الشعب" المحافظ على منافسه مرشح "الحزب الديمقراطي" جاي ميونغ بنسبة بسيطة بلغت 48.6% مقابل 47.8% للأخير. وقتها علق الكثيرون، مشيرين إلى تواضع قدرات الرئيس الفائز، بل وُصف بالرئيس المبتديء كناية عن افتقاره إلى أي خبرة برلمانية وسياسية سابقة أو أي سجل إداري حافل بالانجازات، عدا عن شهرة استمدها من عمله بالمحاماة وقيامه بتوجيه الاتهامات بالفساد للرئيسين المحافظين السابقين السيدة "بارك غين هي" و"لي ميونغ باك"، ثم شهرته كمدع عام متمرد في عام 2013 حينما كشف عن ضغوط تعرض لها لوقف التحقيق في دور المخابرات الوطنية لجهة التلاعب في نتائج انتخابات عام 2012، وهو التمرد الذي أدى إلى ابعاده لسنوات عن المناصب الرفيعة إلى أن أعاد سلفه الرئيس  "مون جاي إن" تعيينه في عام 2017 مدعيا عاما.

ويمكن القول أن فوزه بنسبة ضئيلة جدا على مرشح الحزب الديمقراطي، ثم فوز وسيطرة الحزب الديمقراطي على الجمعية الوطنية بعد اجراء انتخابات تشريعية اتسمت بالاستقطاب السياسي الحاد في ابريل 2022، جعلت الرئيس يون بطة عرجاء لا تستطيع السير قدما بسرعة لتحقيق أجنداته وأجندات حزبه المحافظ. إذ كلما سعت حكومته لتنفيذ بعض البرامج والأفكار، قام البرلمان المسيطر عليه من المعارضة بتعطيلها بدليل تعثر اتفاق الحكومة والبرلمان حول ميزانية العام المقبل، بل قيام نواب المعارضة باستقطاع نحو 2.8 مليار دولار من الميزانية المقترحة من قبل حكومة يون، وهو الأمر الذي اعتبره الرئيس محاولة متعمدة من خصومه لتعطيل الانفاق على وكالات حكومية وأنشطة خاصة بمكتبه الرئاسي وصندوق الاحتياط وأجهزة الأمن والشرطة والإدعاء والتحقيق ومكافحة المخدرات والسلامة الوطنية، إضافة إلى الانفاق على مشتريات الأسلحة الأمريكية لتعزيز قوة البلاد في مواجهة كوريا الشمالية المتنمرة. 

ومن هنا قيل أن الرجل المستاء من هكذا وضع قد يكون نما إلى سمعه خبرا عن خطط برلمانية لإضعافه ثم عزله، فسارع إلى ممارسة صلاحيته الرئاسية بإعلان الأحكام العرفية، مطبقا مقولة "تغدى بخصومه قبل أن يتعشوا به"، ومستخدما تهمة الشيوعية ضدهم، وهي تهمة ليست ببعيدة تماما عنهم. فالمعارضة بقيادة الحزب الديمقراطي لئن كانت تمثل يسار الوسط، إلا أن بين رموزها من هو أقرب إلى أقصى اليسار ولا تتبنى خطابا حادا ضد نظام بيونغيانغ الشيوعي، بل تطالب بالتفاهم معه.

وكما هو معروف، تراجع يون عن فرض الأحكام العرفية بعد يوم واحد، نزولا عند طلب البرلمان كما قال، فنزع بذلك فتيل أزمة هو وبلاده في غنى عن تداعياتها. وهو حسنا فعل بذلك، وإنْ قيل أنه لم يتراجع إلا بضغوط مارسها الحليف الأمريكي الذي يحتفظ فوق اراضي كوريا الجنوبية بقواعد عسكرية والآلاف من الجنود. 

وجملة القول أن الضرر قد وقع، فالرئيس بقراره المفاجيء ثم تراجعه السريع أضر بسمعته وما تبقى له من رصيد شعبي، ولا نستبعد أن يتم عزله لاحقا بضغط شعبي وبرلماني معا، خصوصا وأن غالبية الكوريين الجنوبيين يعتزون بديمقراطيتهم وحرياتهم التي صنعوها بالدم والدموع ويتحسسون من محاولات التعدي عليها أو تقزيمها.



د.عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: ديسمبر 2024م

 


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق