في اليوم التالي لإعلان رئيس الحكومة سعد الحريري ورقته الإصلاحية الاقتصادية والمالية، عاودت الإنتفاضة الشعبية في الشارع إثبات نفسها متجاوزةً هذه الورقة، ضاغطةً على الحكومة لتقديم تنازل جديد، وبدا أنّ البلاد دخلت في الجولة الثانية من الكباش، ما يعني أنّ لعبة عضّ الأصابع بين الحكومة والشارع مستمرّة. ودلّ الحشد الشعبي أمس الأوّل وأمس، إلى أنّ الحراك ما زال محافظاً على قوّة الدفع والاستمرار حتى تحقيق المطالب.
على وقع استمرار الإنتفاضة الشعبية في بيروت وضواحيها ومختلف المناطق، وما يرافقها من اقفال طرق عامة ودولية، شدّدت مصادر ديبلوماسية أوروبية أمس، على ضرورة حماية المتظاهرين أثناء التعبير عن مواقفهم ومطالبهم. وفي السياق هذا شدّد سفير روسيا ألكسندر زاسبيكين على ضرورة عدم إفساح المجال امام دول خارجية للدخول على خطّ الإنتفاضة الشعبية، لكي لا تذهب الأوضاع في اتجاهات أخرى.
وفي هذا الإطار، وزّعت السفارة الفرنسية بياناً جاء فيه أنّ «فرنسا تتابع باهتمام كبير آخر التطورات التي حصلت في لبنان، وتدعو إلى الحفاظ على سلمية الحركات الاحتجاجية، والاحترام التامّ لحقّ جميع اللبنانيين في التظاهر. وهي تكرر تشجيعها الحكومة اللبنانية على إنجاز الإصلاحات الضرورية، بهدف السماح بإعادة إنعاش الاقتصاد اللبناني وتقديم الدولة للخدمات العامة التي تعود بالمنفعة المباشرة على جميع المواطنين اللبنانيين». وختم البيان: «تقف فرنسا إلى جانب لبنان. ومن هذا المنطلق، التزمنا مع شركائنا الدوليين التطبيق السريع للقرارات التي اتخذت في إطار مؤتمر سيدر».
وإلى ذلك قالت مصادر ديبلوماسية أوروبية أنّ هناك إصراراً أوروبياً ولدى العواصم الغربية على بقاء الحريري في رئاسة الحكومة لأنّه يشكّل في رأيها الضمان للدول الأوروبية والضمان لمؤتمر «سيدر» الخاص بلبنان.
لا استقالة ولا تعديل
وفي أجواء الحراك الشعبي الذي تواصل فصولاً، بدت فكرة تعديل الحكومة التي طرحها البعض غير ذي موضوع، إذ أن بعض أهل السلطة تجاوزوها الى البحث في تعيين بدلاء لوزراء «القوات اللبنانية» المستقيلين، كذلك تجاوزوا ما همس به البعض من فكرة تأليف حكومة غير كبيرة. وفي وقت أبلغ رئيس الحكومة سعد الحريري رئيس مجلس النواب نبيه بري أنّ استقالة الحكومة أو تعديلها ليسا واردين لديه. وكانت جرت اتصالات بين المعنيين لإجراء تعديل حكومي.
وكان السيناريو أن يطلب رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة من بعض الوزراء تقديم استقالاتهم رضائياً لتلافي اللجوء الى البند 2 من المادة 69 من الدستور، التي تقضي بإقالة الوزير بمرسوم يصدره رئيسا الجمهورية والحكومة بعد موافقة أكثرية الثلثين الوزارية.
وفي ضوء تزايد الحديث عن تغيير أو تعديل حكوميين علمت «الجمهورية» انّ اتصالاً جرى ليل امس بين بري والحريري أكّد خلاله الأخير «انّ الحديث عن استقالة الحكومة ليس وارداً وليس مطروحاً على الإطلاق، وبالتالي لا استقالة ولا تعديل للحكومة، والأولوية للتنفيذ السريع للمقررات التي انتهى اليها مجلس الوزراء».
بري
وقال بري امام زواره أمس: «الأهم من الورقة الإصلاحية هو الحراك الشعبي الذي لم يكن طائفياً ولا مناطقياً، بل عبّر عن كل لبنان، وكلّ ما تمّ التوصل اليه من قرارات هو نتاج لهذا الحراك. ولفت الى انّ «هذا الجوّ الحالي كان في الإمكان الاستفادة منه لجهة طرح المسائل الاكثر اهمية لاسيّما منها موضوع إلغاء الطائفية السياسية، والدولة المدنيّة وقانون الانتخابات الذي يؤدي اليها».
وقال بري: «الورقة الإصلاحية مهمة، وكما سبق وقلت الأهم هو التنفيذ السريع، أي العبرة في التنفيذ، خصوصاً أنّ الحكومة وضعت لنفسها مواعيد محددة، وأنا اقول أن على الحكومة أن تلتزم بالمواعيد التي حدّدتها». وأضاف: «حتى الآن أرى أن الخطوة الإيجابية الوحيدة والملموسة التي حصلت في موازاة مقررات الحكومة هي إرسال الموازنة الى المجلس النيابي ضمن المهلة الدستورية. علماً أنني قد أبقيت مجلس النواب مفتوحاً حتى السابعة مساء الاثنين، وتلقيناها وسأبلغها الى لجنة المال والموازنة في الساعات المقبلة. وسأطلب من رئيس اللجنة الإسراع في مناقشتها، خصوصاً وانها كما وردت من الحكومة أسهل بكثير من الموازنة السابقة، والتي قد لا تحتاج الى فترة طويلة من الدرس، وبالتالي يؤمل أن تنجز في مجلس النواب في أسرع وقت ممكن. أمّا في ما يتعلق بالبنود الإصلاحية الأُخرى التي تحتاج الى قوانين، فهذا أمر يجري البحث فيه، وقد عرضتها بالتفصيل مع الوزير علي حسن خليل».
وحول مجموعة القوانين الإصلاحية، قال بري: «انّ المجلس النيابي على استعداد لإقرار هذه القوانين في وقت سريع، وخصوصاً انّ احالتها الى المجلس النيابي لا تتطلب وقتاً، لأنّ هذه المشاريع جاهزة ولا ينقصها سوى توقيع مرسوم إحالتها الى مجلس النواب».
وردّاً على سؤال حول استقالة وزراء «القوات اللبنانية» من الحكومة قال بري: «لو استُشرت في هذا الامر قبل حصوله لنصحت بعدمه، أما وقد حصل فأنا أميل الى التريّث في حسم الموضوع، وأعتقد أن هناك فرصة يجب ان تُعطى، فربما تطرأ ظروف أو تنجح اتصالات في حمل «القوات اللبنانية» على إعادة النظر في استقالة وزرائها».
الى ذلك، علمت «الجمهورية» انّ وزير المال علي حسن خليل قد زار الحريري أمس وبحثا في مجموعة القوانين الإصلاحية، وبدا انّ هناك استعجالاً لإنجازها سريعاً. وعُلم انّ الحريري الذي تابع اتصالاته، سيلتقي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ظهر اليوم، ثم يرأس اجتماعاً للجنة الإصلاحات للبتّ في 3 مشاريع ملحّة وردت في الورقة الإصلاحية وهي موضوع التهرّب الضريبي، واستعادة الأموال المنهوبة وتعديل قانون الكهرباء الرقم 462 بما يسهّل تعيين الهيئة الناظمة التي تشرف على تنفيذ خطّة الكهرباء. وفي حال تمّ الانتهاء من هذه المشاريع في لجنة الإصلاحات اليوم قد يدعو الحريري الى جلسة لمجلس الوزراء غداً الخميس لإقرارها، وهذا يدلّ الى استعجال واضح لدى رئيس الحكومة لوضع ورقة الإصلاحات موضوع التنفيذ السريع.
مجموعة الدعم
وكان الحريري اجتمع أمس بسفراء دول مجموعة الدعم الدولية للبنان، وبحث معهم في ورقة الإصلاحات المالية والاقتصادية. وقال المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش بعد اللقاء انّ الحريري «أطلع السفراء على جدية الإجراءات التي طال انتظارها والتي اتخذتها الحكومة، سواء أكانت جزءاً من مشروع موازنة 2020 لكي يتمّ إقرارها ضمن المهل الدستورية، أم من خارج الموازنة». وأشار الى إن المجموعة عبّرت عن دعمها للورقة ورأت أنّها «تتماشى مع تطلعات الشعب اللبناني».
وقالت مصادر السراي الحكومي لـ«الجمهوريّة» انّ اللقاء عقد بناء على دعوة الحريري وتمنّي بعض السفراء الذين رغبوا في التشاور في مستجدات الساحة اللبنانية. وشرح رئيس الحكومة للحاضرين الظروف التي أدّت الى اتخاذ القرارات الاقتصادية والمالية، والآليات السياسية الحكومية والإدارية التي تترجمها. ولفت الحريري الى انّ موازنة 2020 باتت في عهدة مجلس النواب.
محمد فنيش
وفي المواقف قال وزير «حزب الله» محمد فنيش لـ»الجمهوريّة» إنّ «الورقة الاقتصادية هي إنجاز وثمرة من ثمرات حركة الناس الذين عبّروا عن رفضهم سياسات ضريبية، فأتت لتستجيب لمطالبهم بدءاً من مسألة إقرار الموازنة بعجز 0.6 في المئة وبلا ضرائب، أو رسوم تمسّ بالتقديمات الاجتماعية أو الأجور والرواتب، وصولاً إلى بعض البنود التي تشكّل رزمة مالية واجتماعية تساهم فعلياً في معالجة مشاكل أوّلها الإسكان والاستشفاء والفقر». وأشار إلى أنّ «البعض قد يقول أنّ ذلك سيتسبب بالانكماش لأنّ الإنفاق الاستثماري قد انخفض، لكن سيعوّض ذلك بمشاريع قوانين بقيمة 2.6 مليار من حصّة الدولة، سيتمّ من خلالها تأمين الاستملاكات والاستثمارات، وتأمين تنفيذ المشاريع المقرّة».
ولفت فنيش إلى أن لجنة وزارية ستجتمع اليوم لإقرار مجموعة قوانين تتعلّق بمكافحة التهرّب الضريبي وملفي الجمارك والمشتريات». وأضاف أنّ «اللجنة ستناقش قانون استعادة الأموال المنهوبة بآلياته، إضافةً إلى تفعيل دور القضاء». معتبراً أنّها «أمام مقاربة مالية نقدية اجتماعية واقتصادية مختلفة، لطالما كنّا ننادي بها ونأمل أن تتابع هذه الورقة الاقتصادية لضمان حسن تنفيذها».
وأكّد فنيش دعم حقّ التظاهر ضمن القانون «إنّما نحن لسنا مع تعطيل العمل، ومع فتح الطرق لأنّ هناك استحقاقات معيشية للناس». وأضاف: «إذا أردنا تعطيل العمل وشلّ المؤسسات، فسنُدخل البلد في حال من الفوضى، وذلك لا يخدم مصالح هؤلاء الناس، لذلك فإنّ تحقيق هذه المطالب يتطلّب تمكين الحكومة من القيام بدورها خصوصاً أنّه علينا أن ننظر إلى الوضع المالي وسعر الليرة».
الوضع الاقتصادي
لا تزال الورقة التي تضمّنت 24 بنداً، وقدمتها الحكومة أمس الاول موضع قراءات ونقاشات لاستبيان الخيط الاسود من الأبيض فيها. وتتضارب الآراء الاقتصادية حيالها. لكن، ومع استمرار الحراك الشعبي وقطع الطرقات، بدأت تبرز بوادر أزمات تموين وأزمات تأمين السيولة بسبب استمرار إقفال المصارف. ولعلّ المشكلة الرئيسة التي تقضّ مضاجع الناس في هذه الفترة تتعلق بالرواتب التي تبيّن انّها قد لا تصل الى أصحابها في نهاية هذا الشهر اذا استمرّ الوضع على ما هو عليه.
وفي هذا السياق، أكّد الوزير السابق مروان خير الدين، انّه طالما أنّ المصارف مقفلة لن تحصل عمليات تحويل الرواتب أكان للقطاع الخاص أم للقطاع العام. مشدداً على انّ أحداً لن يخسر حقه. فالرواتب ستُحوّل الى الموظفين في اول يوم تفتح فيه المصارف أبوابها.
وردّاً على سؤال عن مدى قدرة الناس على الصمود في ظلّ توقف الأعمال المصرفية، طمأن خيرالدين الى انّ المصارف تعمل قدر المستطاع على تأمين الاموال في أجهزة الصراف الآلي ATM ولم نشعر حتى الآن انّ هناك طلباً على السيولة بشكل خطير.
خطر حصول اضطرابات
الى ذلك، حذّر الخبير الاقتصادي شربل قرداحي، انّ التطورات المالية والانهيارات تتسارع دائماً مع بدء التظاهرات والاحتجاجات.
وقال لـ»الجمهوريّة» انّه اذا أصرّ الرأي العام والسوق المالية والمودعون والمستثمرون على انّ الاجراءات التي اتخذتها الحكومة غير كافية، «نكون قد دخلنا حلقة متسارعة من الانهيار. وستبدأ في الأسابيع المقبلة الاضطرابات الاجتماعية وتتفاقم الأزمات تباعاً، وقد ينعدم وجود الدولارات لاستيراد المواد الأساسية...».
واعتبر انّ هذا الوضع سيخلق اضطرابات اجتماعية وعصياناً مدنياً وعمليات شغب قد تصل الى حدّ الاعتداء على المحالّ التجارية بهدف تأمين احتياجات المواطنين الغذائية.
وأوضح قرداحي انّ إقرار مجلس النواب لقانون الموازنة والإصلاحات الأخرى التي أقرّتها الحكومة من خارج الموازنة، إن حصل، قد يبعث ببعض الارتياح لدى المواطنين ولدى الأسواق المالية. أما المماطلة، فستقوّض الثقة بالإجراءات».
الى ذلك اعتبر خبير مالي واستثماري دولي، انّ تحميل المصارف عبء خفض كلفة خدمة الدين العام هو بمثابة تخلّف الحكومة عن السداد. وقال لـ»رويترز»، انّ «هذا الأمر لا يحلّ أيّ مشكلة بل يخلق المزيد من الأزمات».
0 comments:
إرسال تعليق