اليابان بإتجاه تعزيز قدراتها العسكرية .. لماذا؟



كتب د. عبدالله المدني*


ظهرت الصحف اليابانية مؤخرا يتصدرها ماقاله وزير الدفاع "نوبو كيشي" في حوار خاص مع صحيفة نيكي من أن بلاده لا تفكر أن تلتزم حرفيا بسقف 1% من إجمالي الناتج المحلي للإنفاق على المسائل الدفاعية، موضحا أن البيئة الأمنية المحيطة باليابان تتغير بسرعة وحالة عدم اليقين تزداد في المنطقة، وبالتالي "يجب علينا زيادة قدراتنا الدفاعية بوتيرة مختلفة جذريا عما كانت عليه في الماضي"، ومضيفا "سوف نعزز  قدراتنا في مجالات جديدة مثل الفضاء والحرب الإلكترونية والحرب الكهرومغناطيسية، خصوصا مع تقدم الابتكار التكنولوجي بوتيرة هائلة، وتغير طبيعة الحروب القادمة".


المعروف أن سقف 1% للإنفاق الدفاعي تم وضعه في عام 1976 في عهد رئيس الوزراء الأسبق "ياساهيرو ناكاسوني"، ثم صرح الأخير في عام 1987 أنه سوف يلغيه ويرفعه، لكنه لم يفعل، فبقيت النسبة مبدأ توجيهيا غير رسمي في السياسات الدفاعية لليابان. والمعروف أيضا أن الانفاق الدفاعي الياباني ارتفع خلال السنوات الماضية لكنه لم يتجاوز هذه النسبة إلا في مرة واحدة في عام 1990. على أن تصريح "نوبو كيشي" ليس الأول من نوعه، فرئيس الوزراء السابق "شينزو آبي" كان قد ذكر أمام برلمان بلاده في عام 2017 أنه لا يوجد أي حظر لزيادة الانفاق الدفاعي فوق سقف 1%. ثم عاد آبي في عام 2019 ليؤكد أن طبيعة الأمن قد تغيرت وباتت تشتمل على المزيد من التهديدات والتقنيات غير المسبوقة، وبالتالي فإن على اليابان أن تصمم دفاعها الخاص وتعزز قدرات قوات الدفاع الذاتي اليابانية بالإستفادة من التقدم التكنولوجي الهائل في مجالات الفضاء والحرب الإلكترونية وغيرها، مضيفا أن بلاده لم تعد متمسكة بالمادة التاسعة من الدستور التي تقيد تسليح البلاد أو امتلاك قدرات هجومية. وقتها قيل أن تلك الخطوة اليابانية مرتبطة بمعارضة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استمرار الإنفاق على حماية دول أخرى غنية كاليابان دون مقابل. 

والحال أنه بجمع كل هذه التصريحات معا، يستنتج المراقب أن طوكيو قلقة من تغير البيئة الأمنية المحيطة بها في بحر الصين الجنوبي والشرقي وتجد نفسها مضطرة لتخصيص المزيد من موارها من أجل امتلاك واكتساب قدرات عسكرية رادعة، خصوصا في ظل عدم الشعور باليقين إزاء مخططات الحليف الأمريكي وكيفية تصرفه في حال وقوع اعتداء خارجي، رغم كل التأكيدات الأمريكية بأن واشنطن ملتزمة بالدفاع عن اليابان بموجب المعاهدات الثنائية، بما فيها معاهدة التعاون والأمن المتبادل التي تقول مادتها الخامسة أن الولايات المتحدة سوف تتدخل في حال وقوع أي إعتداء على جزر سينانكو (جزر صغيرة تسيطر عليها اليابان وتدعي الصين السيادة عليها، وتقع على بعد 220 كلم شمال شرق تايوان و370 كلم من جزيرة أوكيناوا والساحل الصيني).


لكن ما هي الخطوط الرئيسية التي سوف تعمل عليها طوكيو لتعزيز وتطوير قدراتها الدفاعية وإخراجها من حالة "التدخل" التي لم تعد كافية بحسب "نوبو كيشي" إلى حالة "الردع" التي تعني القدرة على توجيه ضربات إستباقية رادعة؟، علما بأن هذا التحول يشكل خطا أحمرا بموجب دستور عدم الحرب الذي فرضه الإحتلال الأمريكي بُعيد هزيمة اليابان في الحرب الكونية الثانية. صحيح أن هذا القيد سمح لليابان طوال العقود الماضية لتوجيه كافة طاقاتها ومواردها نحو البناء والتنمية والتصنيع في ظل سلام يخيم عليها، لكن الصحيح أيضا أنه سمح لبعض جيرانها بالتنمر عليها، وهو ما يدفع طوكيو اليوم إلى القول أن ذلك القيد انتهى زمنه، ويجب أن ينكسر.


والحقيقة أن اليابان تجاوزت القيد بموافقة ضمنية ممن قيدها، بدليل أن جيشها يحتل اليوم المرتبة الخامسة عسكريا على مستوى العالم، بعد الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند (تصنيف غلوبال فاير بور لعام 2021)، ثم بدليل تصنيعها الصاروخ  HSGM  وهو صاروخ جو ــ جو  جديد يتميز بالقدرة الفائقة على التحليق على إرتفاع منخفض بسرعة تفوق سرعة الصوت وإصابة الهدف بدقة متناهية، وبشكل يتجاوز قدرات الصواريخ الروسية والكورية الجنوبية المشابهة لجهة الإستخدام. هذا علما بأن العمل جار على تطوير هذا الصاروخ من حيث المدى ليتجاوز مداه الحالي البالغ 317 كلم.


بالعودة إلى سؤال ماذا ستفعل اليابان؟ يتوقع المراقبون أنها ستنفق بشكل أكبر على تطوير ترسانتها البحرية كي تتمكن من الانتشار البرمائي السريع في مناطق الجزر مع إنشاء المزيد من القواعد العسكرية وإجراء المزيد من المناورات والتدريبات مع قوات الدول الحليفة، واستخدام تكنولوجياتها الذاتية المتقدمة في انتاج صواريخ باليستية بعيدة المدى على طائرات F-2 و F-35As و F-35B ، وتزويد قواتها بأنظمة صواريخ مغناطيسية متقدمة لتحسين نظام الدفاع الصاروخي الحالي، وتوفير شبكة رادارات فضائية قادرة على اصطياد أي شيء قادم من الدول المعادية عبر الفضاء، والدخول بقوة في مجال الحرب الإلكترونية التي تملك كل مقوماتها التقنية، وغير ذلك من الخطوات التي تبعث برسالة إطمئنان إلى الشعب وترسل في الوقت نفسه رسالة إلى أعدائها بأنها لم تعد لقمة سائغة.


وللتذكير فإن اليابان قادرة على امتلاك أسلحة ردع نووية، لكنها تواجه رفضا من قبل شعبها بسبب الذكريات الأليمة التي صاحبت إلقاء أول قنبلتين نوويتين في العالم عليها في أغسطس 1945.



د.عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين

تاريخ المادة: يونيو 2021م



CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق