دوسلدورف/أحمد سليمان العُمري ـ
بداية أودّ التوضيح بأنّ هذه المقالة لا تتحدّث كثيرا عن مجريات القمّة العربية فعلا، ولا تُقدّم طروحاتها أو شروحا لنصّ البيان الختامي لها، أو ما تمخّض عنها من مبادارات وقرارات بلاستيكية، وإلّا لكان نشر المقالة بغير موعدها، هذا مع قناعاتي بأنّ موعدها هو في أي وقت من العام، لتناسخ وتشابه القمم من حيث إنفاذ أو تحقيق أعمال على أرض الواقع، أو حتى نوعية الخطابات وصياغة العبارات، إنّما محاولة للحديث عن بعض الإخفاقات المتناسخة، التي يُسَوّق لها في كلّ قمّة عربية على أنّها إنجازات.
احتضنت الجزائر القمّة العربية الـ 31 تحت شعار «لمّ الشّمل» وسط خلافات إقليمية مُعقّدة؛ تعذّر حلّها وتفاقم بعضها وعكس كثيرها مسار التنمية البشرية طيلة عقدين من الزمان، وهدّدت السّلام والأمن الإقليميين، جرّاء حروب غدت من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، ودفعت بعض مؤسّسات الدول إلى حافة الانهيار.
افتُتحت الثلاثاء الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2022 أولى أيام قمّة جامعة الدول العربية، بكلمة للرئيس التونسي قيس سعيّد، رئيس الدورة الماضية، دعا فيها إلى تجاوز الخلافات العربية، العربية ولمّ الشّمل.
وقد أرجأ سعيّد دموية الأنظمة إلى الثورات التي طالبت بالحرّيّة حين قال: «وطي النزاعات الدامية الموروثة عمّا سُمّيا بحقبة الربيع العربي»، واعتبر رفض القمعية والممارسات البوليسية ذريعة تُقرّها الجامعة العربية: «للانتصار على من يَشُنّون حربا ضروسا لإسقاط الدول»، حسب تصريحه.
الحرّيّة هي الحقّ المشروع الذي لا يمنحه سعيّد ولا يمنعه، ولا تُقرّه الجامعة العربية ولا يحقّ لها أن ترفضه، لأنّه وبكلّ الأعراف يُخلق مع الإنسان.
بدأت القمّة أعمالها في العاصمة الجزائرية بغياب عدّة دول وازنة؛ لم تكن ممثّلة بقادة دولها، لا سيما السعودية، الكويت، الإمارات، البحرين، عُمان، المغرب، الأردن ولبنان، والأخيرة لاعتبارات تخصّ انتهاء عُهدة ميشال عون الرئاسية في 31 من الشهر الماضي.
المِلفّ الإسرائيلي
أظنّ بأنّ سبب غياب الدول الخليجية ومعها الأردن يعود إلى رغبة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، هذا رغم تصريح زعماء دول الخليج بعدم الحضور قبل السعودية، ولكن حتى لا يصبح الأمر واضحا، لاعتبارات ارتأى الأمير محمد تجنّبها ولزوما تطبيقها حول القضيّة الفلسطينية، وهي القضّية الجوهرية في القمّة بحضور الدول المطبّعة وأخرى برسم التطبيع.
في آخر قمّة عُقدت لجامعة الدول العربية في آذار/مارس 2019 في تونس، كانت بعض الدول الأعضاء تضع على رأس أولولياتها القضيّة الفلسطينية، وفي نهج نظامها ونصبها العِداء للاحتلال، حتى لو شكليا؛ أقامت اليوم إتفاقيات تطبيع معه، لا بل تجاوزت التطبيع التقليدي بالصهر والإندماج المُعيب الذي يُقوّض الحقّ الفلسطيني بالدعم العربي.
بهذا الشكل من التطبيع دخلت السودان والمغرب ودولة الإمارات والبحرين بعلاقات مع إسرائيل في 2020 في إطار سلسلة اتفاقيات أمنية وإقتصادية وسياحية، وكثيرة أخرى ترتّب عليها نشر نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي «باراك» ضد الصواريخ الباليستية الإيرانية وصواريخ «كروز» والطائرات المسيّرة، ومنظومة رادارية في عدّة دول في الشرق الأوسط، بما في ذلك البحرين، ثم سارت المغرب بركب الإمارات وأبرمت إتفاقيات أمنية مع الإحتلال، وصلت لمشاركة المفتّش العام للقوات الملكية المغربية الفاروق بلخير في مناورة عسكرية بقاعدة «تساليم»؛ حاكت هجمات صاروخية وجوية وبرّيّة، وفاقمت في ذات الآن الحالة المأزومة مع الجزائر، بسبب الخلافات الحادّة حول إقليم الصحراء الغربية؛ كان من شأنها قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين منذ آب/أغسطس 2021 بقرار جزائري.
وقد يُبرّر غياب بعض الدول المطبّعة ضمن «إتفاقات أبراهام»، وأخرى قيد التطبيع، أو تجمعها مع الإحتلال إتفاقيات كاتفاقية الطيران الإسرائيلي السعودي، وللأهمية التي توليها الجزائر للقضيّة الفسطينية والتأييد، وخاصّة أنّها المضيفة للقمّة، كما وقد رعت في منتصف تشرين الأول/أكتوبر اتفاق مصالحة بين الفصائل الفلسطينية، محاولة منها للَأم النجلاء الفلسطينية فيما بينها.
اللُّحمة العربية وتعليق عودة سوريا
اتفاق المصالحة بين الفصائل الفلسطينية بادرة تُحسب لتبّون، لكن فُرص تنفيذ المصالحة على أرض الواقع عقيمة، فقد جفّ حبر المصالحة قبل أن تصل الوفود الفلسطينية إلى أرضها، فالسلطة تنهج التواطؤ والتنسيق الأمني مع الإحتلال، وقادّة غزّة يحملون على عواتقهم الرّدع والرّدّ والمقاومة والكرامة.
بدأت قمّة لمّ الشّمل بيومها الأول بالفرقة العربية، حيث طغى الخلاف المغربي الجزائري على الأعمال التحضيرية لوزراء الخارجية العرب، بعد احتجاج الجامعة على قناة الجزائر الدولية لعرضها خريطة للوطن العربي غير المعتمدة؛ فصلت الصحراء الغربية عن المغرب، الشيء الذي أثار حفيظة الوفد المغربي.
سعت الجزائر منذ فترة بتشجيع من روسيا وإيران لإعادة دمشق إلى الجامعة العربية، التي عُلّقت عضويتها منذ بداية 2011 بسبب الفظائع التي ارتكبها النظام بحق الشعب السوري، غير أنّ الجزائر تخلّت عن هذا المسعى بعد معارضة عدد من الدول الفاعلة؛ من بينها دول الخليج.
التخلّي عن ضم رئيس النظام السوري للحاضنة العربية مرّة أخرى قرار حكيم، وإلّا كان بمثابة مشاركة صريحة من الأنظمة العربية؛ ممثّلة بجامعتها بالمجازر التي أرتكبها الأسد بحقّ السوريين، ولكانت عودة الأسد بمنزلة المنتصر بدلا من المجرم المُدان.
نسخ عربي في البيان الختامي
تواصلت أعمال الجامعة العربية في يومها الثاني، حيث تشابهت كلمات القادة العرب في البيان الختامي للقمّة العربية من حيث المضمون، فقد أجمعوا على مواجهة الدول العربية لتحديات تُلقي بظلالها على الجانب الأمني لتطال المنطقة برمّتها؛ تحدّثوا عن الملف الليبي وتضميد جرحه من أجل لمّ الشّمل، والوساطة العربية الليبية، التي تساوي على أرض الواقع صفر، إضافة إلى عدم دخول الدول العربية لغاية الآن بوساطة لإنهاء المأساة اليمنية، وهو الدور الدبلوماسي المحوري الذي سبق ومارسته مسقط في الماضي للتقريب بين الأطراف اليمنية المتناحرة.
أمّا دور الشباب المهمّش، لا بل قمعه وتجييش الأنظمة البوليسية ضده لتكميم الأفواه وقمع الحرّيّات، لا بل اتهام المواطن عامّة من أجل ذلك بذرائع مهترئة تُهدّد أمن الدول، وهو الحديث الذي بدا بجلاء في خطاب سعيّد.
وتزامنا مع الخطابات الداعية لخلق مبادارات لحلّ الأزمة السورية، التي أثقل الحرب كاهلها عقدا من الزمن والانهيار الإقتصادي وانعكاساته ونتائجه الكارثية المأساوية على المواطن؛ تُشبه تلك الحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت السطات الجزائرية تدفع عشرات اللاجئين، لا بل «ترمي» - بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى - 62 لاجئ سوري، بينهم أطفالا ونساء وشيوخ على قلّتهم إلى قلب الصحراء.
هذه القمّة لم تختلف حقيقة عن القمم العربية الماضية؛ إجماع شكلي على مركزية القضية الفلسطينية، ودعم مطلق لحقوق الشعب الفلسطيني، وضرورة التمسّك بمبادرات السّلام بكلّ عناصرها وأولوياتها، بينما الإحتلال يتبنّى السياسة القمعيّة ويُصرّح بإستخدام كلّ القوى المتاحة للتنكيل بالفلسطيني، بالشراكة مع السلطة الفلسطينية ووجوم الأنظمة العربية، فضلا عن عدم تجريم القمّة للممارسات والقتل الإسرائيلي ضد أبناء شعبنا العُزّل في فلسطين.
كلّ خطابات الجامعة العربية، وآخرها التي ألقاها عبد المجيد تبّون إنشائية متكرّرة خالية من المصداقية، ليس لها أي تأثير على الشارع العربي وقضاياه، بداية بلمّ الشّمل الدعائي، الذي أطّره الطرد السوري وتمزيق الخريطة العربية، مرورا بتعزيز العمل العربي المشترك لحماية الأمن القومي العربي، ونهاية ضرورة مواصلة الجهود والمساعي الرامية لحماية مدينة القدس المحتلّة والمقدسات، التي لا تُشكّل غير بروتكولات ورقية متشابة؛ تستخدم القضية الفلسطينية مطية لتسويق الوهم.
أمّا بما يتعلّق بالتنديد لتدخّل تركيا وإيران بالشأن العربي فقد انشقت الدول على بعضها حسب وجهتها السياسية والطائفية ومصلحتها حينا آخر.
المعضلة في القمم العربية هي الخطابات الرّنّانة غير الصريحة والمنفصلة تماما عن الواقع، لأنّها بالحقيقة لا تلقي بالاً لمصالح الشعوب، إنّما لديمومتها.
هذه القمّة لا تختلف كثيرا عن التي سبقتها؛ مزايدات بالشعارات وتناسخ بالألفاظ أو البيانات الختامية، كما حصل مثلا في قمّة بيروت بعام 2002، التي شهدت مبادرة السّلام العربية أيضا.
الجامعة العربية لا تُلزم أعضاءها بتنفيذ أي إتفاقية أو مشاريع من شأنها المُضيّ قُدما لتنفيذ ختاميات القمّة، ولا تشبه أبداً الاتحادات والكيانات الأخرى، كما هو الحال عربيا في مجلس التعاون الخليجي أو دول الإتحاد الأوروبي، مجموعة الدول الصناعية السبع أو مجموعة «بريكس»، أو أي تنظيمات مماثلة تعمل أكثر ممّا تتحدّث.
يعني بطرح آخر كما قال أبو حامد الغزالي في كتابه «إلجام العوام عن علم الكلام»، كلام لا يؤدّي إلّا إلى كلام. ومن عندي أوله كآخره، لن يُغيّر الوضع الراهن في فلسطين ولا بالأمن القومي في المنطقة، ولا حتى إضافة نوعية بإختيار المفردات والتصريحات.
0 comments:
إرسال تعليق