قصة أول بعثة دراسية بحرينية إلى بيروت عام 1928

​المستشار البريطاني چارلز بلگريف مع حاكم البحرين السابق الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة (1894-1961) في الخمسينيات القرن الماضي

اختيار واعداد عادل محمد
11 فبراير 2020

بلجريف وأوَّل بعثة جامعيَّة في تاريخ البحرين
بعد ثماني سنوات من بداية التّعليم النّظامي في البحرين، برزت فكرة إرسال بعثة من الطلاب المتميّزين دراسيًا لاستكمال دراستهم في الخارج، وقد كانت وجهتهم هي الجامعة الأميركيّة في بيروت، وتم اختيار الطلاب من قبل مدير مدرسة المحرق عثمان الحوراني، وتكوّنت البعثة من كلّ من:
عبدالله بن ابراهيم آل خليفة.
خليفة بن محمد آل خليفة.
حمد بن عبدالله آل خليفة.
محمد بن الشيخ قاسم المهزع.
راشد بن عبدالرحمن الزياني.
عبدالعزيز بن سعد الشملان.
عبدالرحمن بن قاسم المعاودة.
عبدالله بن محمد الباكر. (على حساب والده)

وقد أفرد بلجريف لهذه البعثة فقرة في تقريره، جاء فيها:

«الطلاب السّبعة من مدارس البحرين الَّذين درسوا لمدة سنتين على نفقة الحكومة في جامعة بيروت، كانت تقاريرهم جيدة. ثلاثة منهم من أبناء الشيوخ، وقد قضوا عطلتهم الصيفيّة الفائتة في البحرين. معرفتهم باللغة الإنجليزيّة بدا عليها التطوّر بشكل ملحوظ. بدون شكّ، فإنّ نجاح هذه التجربة سوف يكون ملحوظًا عندما يرجع الأولاد في نهاية الفصل الحالي. أربعة منهم سوف يعيّنون في المدارس كمديرين.
تكلفة هذه التّجربة كانت عالية، وعلى الرغم من أنّ العديد من هؤلاء الطلاب أبناء عوائل غنيّة، فإنّ الحكومة دفعت كلّ شيء لهم. تم اختيار الطلاب في وقت إجازتي. وفي رأيي، فإن اختيار اثنين أو ثلاثة منهم لم يكن موفقًا. لقد كانوا أبناء أشخاص معروفين بإيذائهم وعدائهم للحكومة، وقد تم اختيارهم من قبل أحد المديريْن اللذيْن تم فصلهما. وفي أثناء الإضراب، أرسل أربعة منهم إلى المديرين برقية تعاطف وتأييد. من المأمول أن لا يشير ذلك إلى سلوكهم المستقبلي»(13).

وهنا تستوقفنا عدة ملاحظات في هذا النصّ:

أولًا: إنَّ تقارير الطلاب كانت جيّدة، وهذا يخالف ما ذكره بلجريف في أوّل تقريره، من أنَّ طلاب المدارس لا يحسنون عمل شيء بسيط في مكاتب الحكومة. كما أنّه ذكر أن اختيارهم كان موفّقًا، وكانوا جديرين بهذه البعثة.
ثانيًا: يركّز بلجريف على تعلّم اللغة الإنجليزية، ويولي ذلك اهتمامًا خاصًا، وكأن البحرين في ذلك الوقت لا تحتاج من المعارف أي شيء غير اللغة الإنجليزية!

ثالثًا: يعتقد بلجريف أنّ هناك من لا يستحقّ أن يكون ضمن هذه البعثة، رغم أنّ تقاريرهم جيّدة، ولا يقدّم أية أسباب موضوعية لعدم استحقاقهم لها. وكلّ ما يمكن أن نفسّر به عدم الاستحقاق هو تحميل الأولاد ذنب انتمائهم إلى عائلات معادية للحكومة!

رابعًا: إضافةً إلى انتماء الطّلبة إلى عوائل معادية للحكومة، بحسب تصنيف بلجريف، فيمكن اعتبار اختيارهم دون استشارة بلجريف سببًا آخر لسعيه إلى إفشال البعثة، وخصوصًا أن الاختيار تم من قبل عثمان الحوراني؛ المدير المفصول الذي قاد إضرابًا ضد تعيين فائق أدهم ناظراً للمدارس، لأنه كان يمثل أداة بيد السّلطة للسّيطرة على التعليم.

خامسًا: يبدو أنّ ما ذكره بلجريف من أمر برقيات التعاطف الّتي أرسلها الطلاب لمساندة معلّميهم في الإضراب، هو من باب تدعيم الحجّة بأن هؤلاء الطلبة سيسبّبون متاعب للحكومة، وبالتالي لا بدّ من إيقاف البعثة.
بقي أن نشير إلى أنَّ البحرين توقّفت عن إرسال البعثات الطلابية إلى الجامعات حتى العام 1945م، حيث أُرسِل 16 طالبًا إلى مصر. ومن المضحك المبكي أنَّ بعثة 1945م، قد أوقفت بسبب تأثر الطلاب بالأوضاع السياسية في مصر، ومشاركتهم في التظاهرات، واعتناق بعضهم لأفكار سياسيّة دينيّة (ربما يكون المقصود هو فكر الإخوان المسلمين)، إضافةً إلى فشل البعض دراسيًا ورسوبهم! وهنا، يحقّ لنا أن نتساءل عن معايير اختيار الطلاب المبتعثين، وخصوصًا أنّ بلجريف قد انتقد معايير اختيار طلاب بعثة 1928م(14).

مجموعة من الصور النادرة لتشارلز بلجريف خلال فترة وجوده في البحرين

موقف المثقّفين الوطنيّين من تدخّلات بلجريف في التّعليم وتعيين فائق أدهم

1. إبراهيم العُرَيِّض: هو شاعر البحرين الكبير، ومن أعلام الأدب والثقافة العربيّة في القرن العشرين. كان يعمل مدرّسًا للغة الإنجليزية في مدرسة الهداية ـ فرع المنامة، قبل أن ينتقل للعمل مديرًا مساعدًا في المدرسة الجعفرية، إلا أنه فصل من عمله بجرة قلم من قبل ناظر التعليم فائق أدهم الذي عيّنه بلجريف، وكان سبب فصله هو خلاف أدهم مع مجلس التّعليم الجعفري، إن صحّ التعبير.
لقد كان العُرَيّض مسافرًا لنشر ديوانه الشعري الأول «الذكرى» في العام 1930م، وعندما عاد تفاجأ بفصله من العمل! فما كان منه إلا أن أسّس مدرسةً خاصّة «المدرسة الأهلية»، وبدأ يعلّم فيها بنفسه وبمساعدة من تلاميذه (المتخرجين)، بعد أن رفض وصاية فائق أدهم وبلجريف، وعبّر عن ذلك في إحدى قصائده، فقال واصفًا فائق أدهم:


جاهلٌ قام بالأمور اعتسافًا كلّفته الظّروف ما لا يطيق
يتثنى على العباد غرورًا واختيالًا إذا مشى لا يفيق
أضمر السوء للبلاد نفاقًا ما له مكره به لا يحيق
بطلت دعوى الزعامة فيه أفهل ناب أمره التحقيق
طربت روحه الشقيّة لما قام في زهرة البلاد حريق
2. عبدالرحمن بن قاسم المعاودة: هو أديب البحرين وشاعرها، وأحد أعضاء البعثة التعليميّة الأولى إلى الجامعة في بيروت، الّتي وقف ضدها بلجريف. عندما أنهيت البعثة، عُرِضَ عليه العمل في التعليم الحكوميّ، فرفض وأسَّس مدرسته الخاصّة «مدرسة الإصلاح الأهليّة»، ثم أسّس مدرسة الإرشاد. وقد قال في هجاء فائق أدهم عندما أقيل من عمله:

إلى أين اعتزمت إذًا ذهابا لتملأ ما تحلّ به خرابا
طُردت فكان طردك خير فأل يبشر للّذي بالعبّ طابا
يطيب لنا فراقك يا ابن آوى وكون مصير ما تجني يبابا
بغاة السوء ويحكم أفيقوا فإن مريده بالناس خابا
وإنّ الله يأبى أن تكونوا على حال تضيق به اكتئابا
تبيعون الضمائر بالكراسي فتجنون الكراهة والسبابا
ذهابًا عاجلًا يا وغد عنا ذهابًا لا نطيق به إيابا
فأنت نزلت بالبحرين ضيفًا ثقيلًا ما عرفت به صحابا
فكل رجالها يأبون قربًا إليك فلؤمك المشهور عابا(15)
3. عبدالعزيز الشَّملان: مناضل وطني كبير، عضو هيئة الاتحاد الوطني في الخمسينات، وهو من طلاب بعثة بيروت. رفض العمل في التعليم الحكوميّ واتّجه إلى التّجارة.

4. محمّد علي التاجر: العلامة المؤرخ صاحب كتاب «عقد اللآل في تاريخ أوال». أسّس مدرسة خاصة عمل فيها برفقة أخيه سلمان التاجر، وعبّر عن رأيه صراحة حين أرّخ لتاريخ المعارف في البحرين في كتابه المذكور، قائلًا: «سارت هذه المدارس بجدٍّ واجتهاد، وبدأت آثار المجهودات تظهر بمستقبل علميّ زاهر يسير دائمًا إلى الأمام، لولا ما أصابها من العثرات أخيرًا، وذلك لما قام به ذلك الرجل المتعسّف الفظّ المتغطرس، السوري المدعو إبراهيم فائق أدهم، الذي أسند إليه نظارة المعارف، وما سببه للمدارس من التقهقر والانحلال الذي كاد يقضي على تلك الأتعاب بالضّياع»(16).

ختامًا، لا بدّ من أن نشير إلى أنَّ فائق أدهم قد فصل من عمله، وتم ترحيله من البحرين برفقة زوجته، بسبب فساده، فالبعض يتّهمه بالضّلوع في قضايا اختلاس أموال المقاصف المدرسية(17)، والبعض يرجّح أنّه ارتكب أفعالًا غير أخلاقيّة(18). والحاصل أنّ بلجريف لم يذكر شيئًا عن هذا الموضوع في تقاريره الرسميّة ولا في مذكراته الشخصية السّريّة، وهذا الأمر قد يدلّ على أنّه كان خجلًا من نفسه ومن ثقته بفائق أدهم الّذي فشل في تطوير التعليم، وغادر بفضيحة تمسّ شرف هذه المهنة.

خلاصة
إنّ نزعة بلجريف إلى التحكّم، أقصت طليعة المثقّفين الوطنيّين من ميدان التعليم الرسمي، وسلّمته إلى شخص كان ينزع نحو الفساد، مثل فائق أدهم. وإنّ هذا الإجراء ساهم في تراجع التعليم بصورة عامّة، وسبّب تراجع التعليم الجامعي 20 عامًا على الأقل، فضلًا عما جلبه من مشاكل وعقد مستمرّة حتى اليوم، فبلجريف لم يكن يبحث عن تطوير التعليم بقدر ما كان يبحث عن السيطرة عليه وتقييده، وهذا واضح جدًا في مسألة حرمان الطلبة الجامعيين من إكمال دراستهم لأسباب سياسية، كما أنّ هذه العقلية السلطويّة فشلت في دمج التعليم السني والشيعي دمجًا سليمًا. ولذلك، فإنّ الاشكالات المتعلّقة بمناهج الدين والتاريخ مستمرة حتى اليوم، إضافةً إلى مشكلة معايير توزيع البعثات الدراسيّة وأسسها، والتأثير السياسي فيها، فضلًا عن الأساليب الاستبداديّة الّتي اتّبعها بلجريف في التعامل مع القضايا التربويّة.

  - ​المصدر: اول بعثة بحرينية للجامعة الاميركية
------------------------------------
 Archive - ​اول بعثة بحرينية للجامعة الاميركية

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق